سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (12)
القواعد العلمية في النقد عند شيخ الإسلام ابن تيمية
بقلم : عبدالله بن محمد الحيالي
المقدمة
الحمد لله وكفي وسلام علي عبده المصطفي ، وبعد :
فهذه رسالة وجيزة توخيت من خلالها عرضاً علمياً لمنهج شيخ الإسلام ابن تيميه في النقد والحكم على الآخرين وبيان القواعد الأساسية التي ينبني عليها النقد العلمي البناء ، استوحيت ذلك من خلال إطلاعي المستمر لكتب شيخ الإسلام ومصنفاته .
والذي دفعني إلى الكتابة في مثل هذا الموضوع الخطير مع قلة بضاعتي فيه أني رأيت كثيراً ممن يتصدى في نقد الناس يغلب علية الجانب العاطفي في تقويم الآخرين ، ودون أن يحكم بميزان الكتاب والسنة وقواعد هذا العلم، فيكثر منه صدور الأحكام الخاطئة دون أن يتحرى المنهج السليم في النقد ، والسبب الثاني الذي دفعني إلي الكتابة في هذا الموضوع، أنني لم أر جمع قواعد هذا الفن في مصنف مستقل . وإنما هو مثبوت في القرآن العزيز والسنة المطهرة وكلام السلف . وفي بطون الكتب والمؤلفات .
والذي قمت به إنما هو جمع الكلام ،وترتيبه علي نسق واحد وفي مكان واحد ،ليسهل علي طلبة العلم الرجوع إليه والانتفاع منه .
وإنما اخترت شيخ الإسلام دون غيره، سببين رئيسيين:
أولهما: لأنه أول من قعد منهج أهل السنة والجماعة، وأبرز من أهتم بها ودافع عنها، ورد علي المخالفين خاصة بعد حدوث معتقدات منحرفة ومناهج بدعية بسبب الانحراف عن المنهج الصحيح
وثانيهما : أنه متأخر جدا جمع ما لم يجمعه غيره، ويكفي في ذلك شهادة أهل الحديث والفقهاء عنه : (( كان الفقهاء في سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا، ولا يعرف أنه ناظر أحد فانقطع عنه، ولا تكلم في علم من العلوم إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد علي وجهها )).
وقد قسمت الرسالة إلي خمسة فصول وخاتمة. وأسأل الله عز وجل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، ولا يجعل فيه لأحد شيئاً. وأن يهدينا الصواب والعدل في الحكم علي الناس، إنه ولي التوفيق وصلي الله علي سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتبه
عبد الله بن محمد الحيالي
الفصل الأول
النقد لغة واصطلاحاً وبيان نشأته عند أهل والعلم
النقد لغة: قال أبو الدر داء: (( إن نقدت الناس نقدوك )) أي: عبتهم واغتبتهم،من قولك: نقدت الجوزة أنقدها، ونقد الدرهم، ونقد له الدرهم أي: أعطاه إياه. ما نقدتها:أي قبضتها ونقد الدراهم أي أخرج منها الزيف وبابها نصر، ودرهم نقد أي وازن: وازن جيد، وناقدت فلاناً إذا ناقشته بالأمر
( )
واصطلاحاً: وصف في الراوي، يثلم عدالته ومر وأته،مما يترتب عليه سقوط كلامه ورده ، وهو مرادف لكلمة الجرح عند أهل الحديث من حيث أنه وصف الراوي بصفات تتضمن تضعيف روايته ، وعدم قبولها وكلاهما ينقسم إلي مقبول غير مقبول .
مشروعية النقد من الكتاب والسنة :
دلت قواعد الشريعة العامة علي وجوب التأكد من سلامة الناس، والبحث عن أحوالهم عند ورود ما يتطلب ذلك. قال تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ (الحجرات: من الآية 6)، فقد أمر الله المؤمنين أن لا يقبلوا خبر الفاسق؛ لما يجر علي المسلمين من مضرة نتيجة نقله عن بعض المؤمنين أخباراً كاذبة، فعليهم أن يتبينوا من خبره حتى لا يندموا.
قلت: وهذا هو معني النقد عند أهل العلم، وهو ضرورة التأكد مما ينسب إلي الناس من أخبار، والتأكد من صحتها وسلامتها، ونقدها علي موازين ثابتة ؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيُ عن بينة، ومما سبق يتبين أن النقد هو الذي يقوم علي التأكد مما يضاف إلي الناس، وينقل عنهم رواية ودراية. أما رواية: وذلك بالاحتراز عن الخطأ من نقل ما يضاف من الناس وتمحيص الكلام، وإخراج ما فيه من الزيف والكذب، ودراية: هو معرفة حال الناقد جرحاً وتعديلاً وتحملاً، وأداء وكل ما يتعلق به مما له صلة بنقده.
نشأة هذا العلم:
نشأ علم النقد والجرح مع نشأة الرواية في الإسلام، إذ كان لابد لمعرفة الأخبار والروايات الصحيحة من سقيمها من معرفة روايتها معرفة تمكن العلماء من الحكم بصدقهم أو كذبهم حتى يتمكنوا فيما بعد من تميز المقبول من المردود، لذلك سألوا عن الرواة وتتبعوهم في جميع أحوال حياتهم العلمية، وحتى في عقر دارهم . وكانوا يبينون أحوال الرواة وينقدوهم حسبة الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا تستولي عليهم العاطفة، فليس في نقاد الحديث من يحابي في الحديث، فقد قصد الجميع خدمة الشريعة وحفظ مصادرها.
وقد أكد العلماء ضرورة بيان أحوال الرواة، وأن ذلك ليس بغيبة،بل في ذلك حفظ الشريعة وصيانتها من الدخيل الزائف ، واستدلوا بما ثبت في السنة من قول الرسول في الجرح : (بئس أخو العشيرة )، وقوله في التعديل: ( نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله )، وقوله في النصيحة: ( أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ) ( )
وذلك حين جاءت فاطمة بنت قيس تسأله عن حال الرجلين، كانا تقدما لخطبتها، فقال ذلك علي وجه النصيحة لها.
ومن هذا أخذ العلماء جواز ذكر الشخص، وما فيه من المساوئ حتى يحذره الناس، وأن هذا ليس من باب الغيبة. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: (( جاء أبو تراب: يا شيخ لا تغب العلماء، فقال له: ويحك هذه نصيحة ليست بغيبة)) ( ) .
¬¬وكان غاية العلماء المحدثين في هذا بيان الحق بكل أمانة وتجرد، ولولا ضرورة التأكد من أحوال الرواة؛ لما خاضوا في هذا الباب. قال يحي بن سعيد: (( إنا لنطعن في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة )).
منهج العلماء في بيان أحوال الناس ونقدهم:
لما كان أكثر الأحكام لا سبيل إلي معرفتها إلا من جهة النقد والرواية، فقد كان كلامهم في الرواية ونقدهم وسيلة لا غاية، فلم يقصدوا الخوض في أعراض الناس،لهذا التزموا الاعتدال في بيان أحوالهم، فلم يتناولوا في ذكر أحوال الرواة غير الجانب الذي يهمهم، وهو الجانب الديني، وقد تميز هذا المنهج في بيان أحوال الرواة بعض القواعد المهمة نجملها فيما يلي:
1- الأمانة في الحكم: فكانوا يذكرون للراوي ما له وما عليه وفضائله ومساوئه، يقول محمد بن سيرين: (( ظلمت أخاك إذا ذكرت مساوئه ولم تذكر محاسنه )).
2- الدقة في إعطاء الأحكام: حيث ندرك من تتبع أقوال العلماء دقة بحثهم،ومعرفتهم بجميع أحوال الراوي الذي يتكلمون فيه،وكل ما له صلة بنفده، ثم يصدرون الحكم المناسب فيه .
3- التزام الأدب في النقد: فلم يخرج هؤلاء العلماء في نقدهم وأحكامهم عن آداب البحث العلمي الصحيح، وكانوا مع ذلك يأمرون طلابهم بالتزام الأدب في نقدهم، يقول المزني، تلميذ الشافعي ـ رحمهما الله تعالي: (( سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: (( فلان كذاب ))، فقال لي: (( يا إبراهيم: إكس ألفاظك أحسنها، ولا تقل كذاب، ولكن قل حديثه ليس بشيء)). ( )
الفصل الثاني
التحذير من الوقوع في أعراض العلماء وبيان خطر اللسان
قد يكون من المناسب أن نقف وقفه لابد منها؛ لننبه إلي خطورة اللسان؛ لأننا قد تمادينا في التساهل بأمر صونه عن الخطأ والزلل.
ومعلوم أن اللسان من أجل النعم. ولو تأمل الإنسان المحروم من هذه النعمة، فإنه عندما يريد التعبير عن نفسه والإفصاح عن شئ، فإنه يستخدم كثيراً من أعضائه. ومع ذلك كله لا يشفي نفسه ولا يبلغ مراده.
فهل حافظنا علي هذه النعمة وسخرناها في نشر الخبر؟!
إن بعض الناس يطلق عليهم عنان لسانه في الوقيعة في أعراض الناس، ويغلب علي أحكامه الجوار وعدم العدل، ولو تأمل هذا المسكين ما ورد في النصوص من التحذير من آفة اللسان؛ لتردد مائة مرة قبل أن يسل لسانه في الكلام علي الناس بغير حق، قال تعالي:﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (قّ:18)، فإن هناك من يحصي ألفاظك وبعد كلماتك. وفي حديث معاذ الطويل وقول الرسول (وهل يكب الناس علي وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ) ( )أو كما قال عليه الصلاة والسلام .
وبين أن من ضمن ما بين لحييه ضمن له الجنة، فقال: ( من يضمن لي ما بين لحييه، ضمنت له الجنة ) ( )
وبين أن الرجل ليلقي الكلمة جزافاً لا ينكر من آثارها وعواقبها، فيسقط، في نار جهنم سبعين خريفاً، فقال: ( وإن الرجل ليتكلم الكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً، وإنها تهوي به في النار سبعين خريفاً) ( )
وقد أشار ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلي قاعدة جليلة عجيبة قل من ينتبه لها في التحذير من آفة اللسان إذ يقول: (( من العجيب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والربا، والزنا، وشرب الخمر، ومن النظر إلي المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يري الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً ينزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم تري من رجل تورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الناس الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول)) ( )
وتزداد خطورة الإثم، ويعظم الذنب،وتكبر المعصية إذا كان الجرح والكلام في علماء الأمة، فهم سادة الأمة، وحراس الشريعة، وسياجها، ونجوم الأرض، فإذا انطفأت أتي الأرض ما توعد، ولا خير في قوم لا يعرفون للعلماء قدرهم ومكانتهم، ولا يعطونهم حقهم من الاحترام والتوقير، وقد قيل: لحوم العلماء مسمومة، وقال ابن عساكر: (( لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالقلب، ابتلاه الله قبل موته بموت قلبه )). فعلي الإنسان المسلم أن يتق الله، ويخشاه، ويراقبه،ويشعر أن الله معه ويتيقن أن الله يسجل حركاته وسكناته وألفاظه، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويجب عليه أن يتريث قبل أن يبدأ بجرح أحد من الناس؛ لكي يكون متزن في حكمه بعيدا عن الظلم.
الفصل الثالث
القواعد العلمية التي يعتمد عليها شيخ الإسلام ابن تيميه في تقويم الرجال
أولاً: الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم: الأصل في هذه القاعدة الشرعية قوله تعالي:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة:
،
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (( أي لا يحملنكم بغض قوم علي ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقاَ كان أو عدواً،ولهذا قال:﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة من الآية
، أي: عدلكم هو أقرب للتقوى من تركه )). ( )
وهذه الآية الكريمة ترسم منهاجاً عظيماً تجعل فيه العدل من لوازم الإيمان ومقتضياته، وترسم منهاجاً دقيقاً يمثل جمع صور العدل مع القريب والبعيد، وينهي عن جميع صور الظلم مع كل أحد.
والعدل به قامت السماوات والأرض، وهو نظام كل شئ، وأساس قيام المجتمعات الإنسانية، قال شيخ الإسلام: (( وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل، الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تترك فيها، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر،ولا تدوم مع الإسلام والظلم.
ذلك أن العدل نظام كل شئ، وإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن صاحبها من أهل الدين، من خلاف، ومتي لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان صاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة)).
وقال أيضاًَ ـ رحمه الله ـ في موضع آخر: (( والعدل مما اتفق أهل الأرض علي مدحه وصحته والثناء علي أهله وصحبتهم،والظلم مما اتفقوا علي نبذه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم، والعدل من المعروف الذي أمر الله به، وهو الحكم بما أنزل الله علي محمد ، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها.
والحكم به واجب علي النبي ، وعلي من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، وهذا واجب علي الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية أو العلمية )) أ. هـ
وفي هذا العصر الذي ندر فيه وجود الإنصاف والعدل، يحتاج المسلم إلي الرجوع دائماً إلي منهج أهل السنة والجماعة، الذي هو امتداد لم كان عليه أصحاب رسول الله علماً وعملاً، ليزن الأمور كلها بميزان قويم لا يتأرجح، حيث أصبحت الأهواء الشخصية، والخلفيات الحزبية هي التي تتحكم بالآراء وتقييم الناس في كثير من الأحيان، حيث أنك تجد الإنسان ليغض الطرف عن أخطاء من يحبه، وإن كانت كبيرة ولا يمكن السكوت عليها، وفي المقابل من ذلك تجده إذا أبغض
أحداً لهوي نفسه جرده من جميع الفضائل والمحاسن، ولم يظهر إلا سيئاته وينس فضائله في الدين، وخدمته للإسلام، مهما كانت بينه وواضحة علي حد قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
لكن عين السخط تبدي المساويا
وهذا الاضطراب في تقييم الناس يرجع إلي القصور المنهجي، والخلل الفكري، والعقم العقائدي عند هؤلاء القوم، ولم يقف الأمر عند هذ ا الحد، بل تعداه إلي التباغض والتفرق المذموم، في الوقت الذي نحتاج فيه الأمة أن تقف صفاً واحدً ضد من يحاول تقويض بنيانها، وصدع صرحها، وتفريق شملها.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في بيان سبب نشوء الفتن والاختلاف بين الناس: (( فإن أكثرهم أصحاب المقالات الفاسدة ـ قد صار لهم هوي في ذلك، أن ينتصر جاههم أو رياستهم، وما ينسب إليهم لا بقصد ، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله ، بل ينصبون علي من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ولا يذموا من ذم الله ورسوله،وتصير موالاتهم ومعاداتهم علي أهواء أنفسهم لا علي دين الله ورسوله )).
وقال ـ رحمه الله ـ أيضاً: (( ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين علي الملك، والعلماء والمشايخ المختلفون في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بظلم وجهل، وإن العدل واجب لكل أحد وعلي كل أحد في كل حال،والظلم محرماً مطلقاً لا يباح بحال قط،قال تعالي: ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية
،وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار،وهو بغض مأمور به،فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف بمن يبغض مسلماً بتأويل وشبهة أو بهوي النفس ؟ فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه ( ).
ولشيوع هذه الظاهرة المقيتة، وانتشارها بين صفوف من ينتسبون إلي الإسلام، وجب علي المسلم دائماً أن يرجع إلي فهم السلف الصالح، ويزن الأمور كلها بميزان دقيق لا تتحكم فيه الآراء والاجتهادات الشخصية، وأن يعتصم بحبل الله وبالجماعات، ويخلص دينه لله، ولا يتكلم في أحد إلا بعلم وعدل وإنصاف كما أمر الله تعالي.
قال شيخ الإسلام بهذا الصدد: (( والله قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بدينه وكتابه وبالإسلام، وبالإخلاص، وبأمره وطاعته وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان )).أ .هـ .
وقال في موضع آخر أيضاً من كتابه: ((فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك، ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة،فهو كافر ( ) أ.هـ .
من خلال النصوص السابقة يجب أن تعلم: أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره كائناً من كان إلا بعلم وإنصاف وعدل،وأن من يتكلم في غيره بغير علم وبينة وبرهان،فهو من الذين قال الله فيهم: ﴿ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ (المائدة: من الآية
.
ولشيخ الإسلام كلام نافع جداً يبين فيه المنهج الصحيح القويم في الحكم علي الآخرين، وتقييم الناس، وخاصة بمن ينسب إلي علم أو دين؛ وذلك إذا أخطأ حتى في مسائل الاعتقاد والإيمان، وسنورد نصه في الفصول القادمة بإذن الله .
ثانياً: التجرد عن الهوي :
إن من أعظم دواعي الهلاك المذموم، وسمي الهوي: هوي؛لأنه يهوي بالإنسان إلي النار الهاوية. وأضل ضلال ابن آدم هو إتباع الظن والهوي،قال تعالي : ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾ (لنجم: من الآية23). ومتبع الهوي لابد من أن يضل عن سبيل الله سواء كان ذلك عن علم أو عن جهل، فإن كثيراً مما يترك الإنسان العلم الذي يعلمه اتباعاً لهواه، ولا بد أن يظلم أما بالقول أو الفعل؛ لأن هواه قد عمي بصيرته ، قال تعالي: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ﴾ (الجاثـية: من الآية23).
ومتبع الهوي لابد أن يبدل دين الله ويحرف الكلم عن مواضعه ، ولهذا ذم الله اليهود ؛ لاتباعهم أهواءهم ، حيث قادهم ذلك إلي تبديل شرع الله والكفر بالرسول والاستعاضة عنه بالدنيا وحطامها، قال الله تعالي:﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ (البقرة: من الآية87).
واتباع الهوي نوع من أنواع الشرك الذي ندد الله بأهله كما قال بعض السلف: شر إله عبد في الأرض الهوى .
فإذا صار الهوي هو القائد للإنسان والدافع له صار أصحابه أحزاباً متفرقة يتعصب كل واحد لرأيه وذوقه ، ويعادي من يخالفه في الرأي، ولو كان الحق مع غيره،لأن الحق ليس مراده ومبتغاه، وبهذا ينشب الخلاف والتفرق بين الأمة، ويحصل فيها ما حذر الله منه في كتابه فتذهب ريحها وتتفرق كلمتها، وتكون فريسة سهلة لأعدائها .
ومن علامات اتباع الهوي: أنك تجد بعض هؤلاء إذا علم أن فلاناً يخالفه في مسألة من المسائل، فإنه يبادر للرد عليه،وتفنيد رأيه بدون تأمل ويبذل جهده،وما عنده من حيلة لإبطال حجته بكل وسيلة يقدر عليها .
ولذلك كان التجرد عن الهوي من الأسباب التي تجعل الحكم صائباً أو قريباَ من الصواب،وقد أوصى الله نبينا داود بالحذر الشديد من اتباع الهوي في الحكم علي الناس، ويبين أن اتباع الهوي يضل الإنسان عن سبيل الله، ولو كان من كان. فقال تعالي: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾(صّ: من الآية26) .
وحين يقع الإنسان في أسر الهوي، فإن الموازين تنقلب وتتغير المفاهيم، فيصبح الحق باطلاً والباطل حقاً بمجرد فساد القلب وانتكاس الفطرة .
وإلي هذه النقطة أشار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ حيث قال: (( ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين أو محبة الموافقين لا يدل علي صحة القول ولا فساده، إلا إذا كان بهدي من الله،بل الاستدلال بذلك الاستدلال بلا اتباع الهوي بغير هدي من الله .
فإن اتباع الإنسان: هو أخذ القول والفعل الذي يحبه ورد القول والفعل الذي يبغضه بلا هدي من الله، قال تعالي: ﴿ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ (الأنعام: من الآية119).
فمن اتباع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث الله به رسوله، وبعد هدي الله الذي بينه في عباده فهو بهذه المثابة، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع والفرق، بأهل الأهواء المخالفين للكتاب والسنة، حيث قبلوا ما أحبوه وردوا ما أبغضوه، بأهوائهم بغير هدي من الله .
قلت: ولهذا حذر السلف رضى الله عنهم من مجالسة أهل الأهواء والبدع، وأمروا بهجرهم، وعدم الرواية عنه ؛ لأنهم يعدون من قرب منهم، ومن جالسهم لا يسلم من الشر،فإما أن يتابعه علي هواه،أو يدخل الشبهة في دينه، أو عرض قلبه .
قال أبو قلابة: (( لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم،وإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالاتهم ، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون )) .
وقال ابن عباس : (( لا تجالس أهل الأهواء, فإن مجالسهم ممرضة للقلب ))، وقال مجاهد: (( لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة كعرة الجرب )). أي: يعدون من قرب منهم وجالسهم كما سبق .
وقال أبو الجوزاء: (( لئن تجاورني القردة والخنازير في دار، أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء )).
وصاحب الهوي إن لم يهديه الله للحق، ويشرح صدره للعلم النافع ويبصره بالدليل، فإنه واقع فيما وقع به إبليس وفرعون، بحسب ما عنده من القدرة، فيطلب من الناس أن يكون شريكاً لله في الطاعة واتباع الأمر والتعظيم.
وهذا وإن لم يصرح به ولا يستطيع ذلك ؛ لكن هذا كامن في النفوس ؛ وهذه هي غاية اتباع الهوي .
قال شيخ الإسلام: (( وصاحب الهوى يعميه الهوى فلا يستحضر ما الله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضى الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضي إذا حصل ما يرضاه ويهواه.
ويغضب إذا ما حصل ما يغضب له بهواه، ويكون منه شبهه دين: أن الذي يرضى له ويغضب له وأنه الحق وأنه الدين، وإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن مقصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا،بل قصده الحمية لنفسه أو طائفته أو الرياء ؛ ليعظم هو ويثني عليه،أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يرى الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة )).
ومتبع الهوى لا بد أن يقوده هواه إلي الظلم والعدوان، بحسب القدرة والاستطاعة لمن خالفه ولم يوافقه،وربما يعادي من له علم ودعوة إلي الله، ويقف في وجهه صاداً عن الحق، كما اليهود يفعلون ذلك، ثم تجده يرمي من خالفه بالألقاب المنفرة التي تخالف أمر الله ورسوله؛ لينفر الناس عن قبول كلامه وسماع نصائحه، وإن كان يدعوا إلي السنة ويرغب فيها، يفعل ذلك كله ابتغاء الفتنة والتفرقة،ويزعم في ذلك أنه مصلح وفي سبيل المصلحة الموهوبة، وأن في ذلك دفع الفساد عن الناس ويريد لهم الخير، كما قال فرعون لقومه: )وَقَالَ فِرْعَوْنُ ﴿ذرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾(غافر26).
وهكذا تنقلب الموازين والقيم،ويصبح المفسد في نظر الناس مصلحاً، والمصلح للدين مفسداً، فيقع شر عريض،وبلاء مستطير .
يقول شيخ الإسلام (( وكثير من الناس من عنده بعض عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد ـ أي يطاع أمره بحسب إمكانه ـ بل يطلب لنفسه ما هو عنده، فإن كان مطاعاً مسلماً طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون في إطاعة من هواه: أحب وأعز من أطاع الله وخالف هواه. وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل، وإن كان عالماً أو شيخاً أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره،حتى لو كان يقرأ كتاباً واحداً كالقرآن، أو يعبدون عبادة واحدة متماثلون فيها كالصلوات الخمس، فإنه يجد من يعظمه بقبول قوله والاقتداء به أكثر من غيره، وربما أبغض نظيره هو واتباعه حسداً وبغياً،كما فعلت اليهود لما بعث الله رسوله محمداً يدعو إلي مثل ما دعا إليه موسى، قال تعالي: ﴿َإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ﴾( البقرة : أية 91).
ولهذا تعلم ـ أخي المسلم ـ أن التجرد عن الهوى أصل عظيم في تقويم الرجال وأعمالهم ، وحتى توارد في الرد علي أهل البدع ، فيجب علي الإنسان أن يقصد فيه بيان الحق وهدي الخلق، وإرادة اٌلإحسان بهم.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً أن الرد علي أهل البدع، وإن كان في نفسه صحيحاً، ولكن إذا لم يقصده به الإنسان وجه الله ثم النصح لهم والإحسان لهم، فإن عمله مردود غير مقبول،وغيرهم لم يقصد هنا بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم واٌلإحسان لهم لم يكن عمله صالحاً. فوجب عند تقويم أي إنسان أن يقصد فيه بيان الحق، وأن يكون مصدر كلامه من العلم بالحق والهدي من الله، وأن يكون مخلصاً لله متجرداً له وغايته النصيحة لله ورسوله ولإخوانه المسلمون ثم عليه قبل أن يبدأ في تقويم أي رجل أو نقده أن يفتش في قلبه ويطهره من جميع أنواع الهوى وحب الظهور؛ لكي يكون حكمه منصفاً بعيداً عن الجور والظلم المذموم، وقد قيل: (( احذروا من الناس صنفين: صاحب هوي قد فتنه هواه، وصاحب أعمته دنياه )).
ثالثاً: الحق لا يعرف بالرجال :
هذه المقولة قالها سيد العقلاء علي بن أبي طالب رضى الله عنه، حيث قال: (( لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله ))، والعاقل ينظر دائماً الحق،ثم ينظر بعد ذلك في القول نفسه،فإن كان حقاً قبله ورضيه لنفسه سواء كان فاعله باطلاً أو محقاً،ويحرص علي انتزاع الحق ولو من لسان إبليس، فإن الحكمة ضالة المؤمن ينشدها من كل أحد،فإن وجدها فهو أحق بها .
والتقليد: هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة، أو هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أين قاله، وهو من الآفات المهلكة، والتي لها تأثير بالغ في تاريخ البشرية والفكر الإنساني، فهو يؤدي إلي تعطيل النصوص الشرعية والعمل بها، ويؤدي إلي إهمال العقل البشري والإعمال في ميدانه، فهو آفة مهلكة، حيث أن المقدر لا ينظر إلي المشكلة المتنازع فيها إلا من خلال مقلده، فالحق ما قاله شيخه ومقلده وزعيمه، وإن خالف الدليل الواضح ولو كان الدليل من الكتاب والسنة، والباطل عنده ما خالف قول شيخه ولو دل عليه دليل أنه خلاف الحق والصواب، ولسان حال المقلد يقول الحجة مع شيخي، ولهذا فهو يلوي أعناق النصوص ويطوعها؛ لكي توافق رأيه واجتهاده، ويسخر فكره وعقله ؛ لكي يحلل أقوال شيخه وقائدة من أجل أن توافقه النصوص ، وقد ذم الله التقليد في كتابه، وشبه أصحابه بمنزلة الأنعام التي لا تفقه ما يقال لها إنما تسمع مجرد أصوات لا تفقه ما وراءها من المعاني والبينات والدلائل قال تعالي:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ﴾(البقرة:170) .
يقول ابن القيم في بيان أن التقليد مذموم محرم في دين الله : (( اتخاذ أحوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع، ولا يلتفت إلي قول من سواه، بل ولا إلي نصوص الشرع إلا إذا وافقت نصوص قوله.
فهذا والله هو الذي اجتمعت الأمة علي أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة )).
ولا أذهب بعيداً إذا ما قلت لك ـ أخي القارئ ـ: أن كثيراً من النزاعات والخلافات التي تحدث بين العلماء وطلاب العلم، وكذلك الاضطراب في تقويم الرجال سببه الرئيسي هو: التعصب والتقليد لأقوال رجل بعينه، ومحاولة معرفة الحق بأقوالهم واتخاذ أقواله حجه في كل شئ ؛ لهذا نري أن علماء الأمة ينهون طلابهم وتلاميذهم عند تقليدهم ومتابعتهم بغير برهان وحجة، وذلك لأن التقليد داء ينخر بجسم الأمة ويقضي علي جانب كبير من نشاطها وفعاليتها في ميادين العلم والمعرفة ويخلد بها إلي الكسل والعجز،وأقوال الأئمة في ذم التقليد وأهله مستفيضة أذكر لك منها ما يأتي:
قال أبو حنيفة: (( لا يحل لمن يفتي من كتبي حتى يعلم من أين قلت )) .
وقال مالك بن أنس: (( أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكلما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه )) .
وقال الشافعي: (( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة رسول الله وتعز عنه.فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله ، خلاف ما قلت: فالقول قول رسول الله وهو قولي. وجعل يردد هذا الكلام )) .
وقال أحمد بن حنبل: (( من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال )).
وإنما اخترت أقوال الأئمة الأربعة، لأن مذاهبهم وجوه في تفسير الشريعة الإسلامية، ومنافذ تطل عليها. وهي المناهج الرئيسية في البحث والفهم،وهي التي كتب لها أن تبعي بين الناس، ويرجع إليها في مسائل الفروع .
يقول شيخ الإٌسلام في بيان: أنه لا يجب علي كل أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه، وأن هذا الإلزام لا تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، وهو إلزام تنقصه الأدلة ،ويعوزه البرهان العلمي، بل هو من أقوال أهل البدع والضلال.
انظر إليه وهو يقول: (( ولا يجب علي أحد من المسلمين التزام مذهب بعينه غير الرسول في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله ، واتباع شخص لمذهب بعينه ، لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ، ليس هو ما يجب علي كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق ، بل كل أحد كل عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله ، فيفعل المأمور ويترك المحظور . والله أعلم )) .
وبين أيضاً في موضع آخر من كتابه : (( أنه يجوز للمسلم أن ينتقل من مذهب إلي آخر، مثل أن يتبين له رجحان قول علي قول ، فيرجع إلي القول الذي يري أنه أقرب إلي معاني الكتاب والسنة ، وأن الجمود علي قوله مذهب بعينه واعتقاد أن المذاهب أو المذهب دين للإسلام ، وهو الضلال بعينه .
يقول ابن تيميه: (( وكذلك فيمن يبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله رسوله ثم عدل عنه ، فهو من أهل الذم والعقاب، وأما من كان عاجزا عن معرفة حكم الله ورسوله، وقد اتبع فيها أحداً من أهل العلم والدين، ولم يتبين له أن قول غيره راجح من قوله ، فهو محمود مثاب .
ولا يذم علي ذلك ولا يعاقب، وإن كان قادراً علي الاستدلال، ومعرفة ما هو الراجح، وتوقي بعض المسائل، ويعد ذلك من التقليد، فهو قد اختلفت بين مذهب أحمد المنصوص عنه والذي عليه أصحابه ، إن هذا إثم أيضاً ...)).
رابعاً: لا يسلم من الخطأ أحد من بني آدم :
الخطأ صفة لا صفة في بني الإنسان، ولا منها من أحد ينجو منها أحد مهما بلغ مرتبة من العلم والدين، ولو نجا منها أحد لنجا منها أصحاب رسول الله الكرام، وهم خير القرون علي وجه الأرض. ومع ذلك لم يسلم أحد منهم من الخطأ والوقوع فيه بتأويل أو غير تأويل. يقول رسول الله في الحديث الصحيح: ( كل بن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ). والصحابة رضوان الله عليهم المعروف عنهم أنهم كانوا يسارعون للتوبة والندم والاستغفار فور وقوعهم في الذنب، ولم يعرف عن أحدهم أنه مات مصرا علي الذنب.
والسيد كما قيل من عدت هفواته وسقطاته، فهذا أقرب من غيره إلي الصواب، وقد رضي الله عنهم من فوق سبع سماوات، وشهد لهم بالخيرية والإيمان،وعلم ما في قلوبهم من الحب للإسلام والتفاني في سبيله، والمقصود أن الخطأـ حتى ولو في المسائل الخبرية العلمية ـ لا ينجو منه أحد من البشر.
يقول شيخ الإسلام: (( فإما الصديقون والشهداء والصالحون، فليسوا بمعصومين وهذا في الذنوب المحققة .
وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر علي اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم، وبعض المبتدعة يري أن الخطأ والإثم والذنب أمران متلازمان، فإذا أخطأ المجتهد ولو بتأويل سائغ، فإنه آثم، ولكن أهل السنة والجماعة يرون أن المجتهد مأجور، والقول قد يكون مخالف للنص الصريح وفاعله معذور، لأن المخالفة بالتأويل لم يسلم فيها أحد من أهل العلم، يقول النبي : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر )).
وهنا يبين ابن تيميه قاعدة شريفة يجب التنبيه لها: ((وهو أن ما يصدر من بعض من له علم ودين من الشاطحات والأقوال المخالفة للشرع، قد يكون مسلوب العقل أو مجتهداً مخطأ اجتهاداً قولياً أو عملياً، فلا يذم والحالة هذه، ولا يتابع عليها فيما هو مخالف لشرع الله، يقول: (( وهذا فيما يعلم من الأقوال والأفعال أنه مخالف للشرع بلا سبب، كالشاطحات المأثورة لبعض المشايخ، كقول ابن هود: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي علي جهنم.وكان الشبلى يحلق لحيته، ويمزق ثيابه حتى أدخلوه المارستان مرتين )).
ثم قال (( جماع هذا أن هذه الأمور تعطى حقها من الكتاب والسنة في الخبر والأمر والنهي، ووجب اتباعه ولم يلتفت إلي من خالفه كائن من كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من اتباع الرسول وطاعته، وأن الرجل الذي صدر منه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة، بأن يكون مسلوب العقل،أو ساقط التمييز، أو مجتهداً، أو مخطأ اجتهاداً قولياً أو عملياًُ أو مغلوباً علي ذلك الفعل أو الترك، بحيث لا يمكنه رد ما هو فيه من الفعل المنكر بلا ذنب فعله، ولا يمكنه أداء ذلك الواجب بلا ذنب فعله، ويكون في هذا الباب نوعه محفوظاً، بل لا يتبع ما خالف الكتاب والسنة، ولا يجعل ذلك شرعاً ولا منهاجاً، بل لا سبيل إلي الله ولا شرعه إلا بما جاء به الرسول .
وأما الأشخاص الذين خالفوا بعض ذلك علي الوجوه المتقدمة فيعتذرون، ولا يذمون ولا يعاقبون، فإن كل أحد من الناس فيؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله .
بناء على ما تقدم في أنه لا يسلم أحد من بني آدم، فلا يذم إن كان معذوراً قد عذرته الشريعة، ولا يتبع علي الفعل المخالف للشريعة، لأنه لا سبيل إلي الله إلا من خلال متابعة رسول الله .
وهنا يفرق شيخ الإسلام بين المخالف للمسائل الاعتقادية المعلومة من الدين بالضرورة فهؤلاء ونحوهم يبين لهم الحق، فإذا اعرضوا عنه وجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب. وبين المخالف للمسائل الفرعية التي هي من موارد الاجتهاد، والتي تنازع فيها أهل الأيمان والعلم، فهذه قد يكون قطيعة عند بعض من تبين له الحق فيها، لكن لا يلزم الناس بما بان له، ولم يبين لهم، فهذا قد يسلم له ويكون صاحبه معذوراً، وقد لا يسلم حاله فلا يكون معذوراً، بل آثماً، فقد تكون هذه المسائل اجتهادية، فهذا تسليم لكل مجتهد بذل وسعه في الوصول إلي الحق، ومن قلده في ذلك وتابعه علي طريقته لا ينكر ذلك عليه .
يقول شيخ الإسلام في بيان ذلك ما نصه: (( وأما الذي لا يسلم إليه حاله إلا أن معذوراً مثل أن يعرف في أنه عاقل بقوله ـ يتواجد ـ يسقط عنه اللوم، ككثير من المنتسبة إلي الشيخ أحمد بن الرفاعي واليونسية، فيما يأتونه من المحرمات، ويتركونه من الواجبات، أو يعرف في أنه يتواجد ويتساكر من وجوه؛ ليظن به خيراً ويرفع عنه الذم فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه تجويز الانحراف من موجب الشريعة المحمدية، وأنه قد يتفوه بما يخالفها.وأن من الرجال من يستغني عن الرسول، أو له أن يخالفه، أو أنه يجري مع القدر المحض المخالف للدين، كما يحكي عن بعض الكذابين الضالين:
إن أهل الصفة قاتلوا النبي مع الكفار لما انهزم أصحابه، وقالوا: نحن مع الله من غلب كنا معه. وأنه صبيحة الإسراء سمع منه ما جري بينه وبين ربه من المفاجآت،وأنه تواجد من السماء....، أو يسوغ لأحد بعد محمد الخروج عن شريعته، كما وسع الخضر الخروج عن أمر موسى، فإنه لم يكن مبعوثاً إليه كما بعث محمد إلي الناس كافة، فهؤلاء ونحوهم مما يخالف الشريعة، ويبين له الحق فيعرض عنه يجب الإنكار عليهم، بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب )).
نقد ابن تيميه للمبتدعين :
بين ابن تيميه لنا من خلال ما سبق منهجاً متميزاً في نقد الرجال وجرحهم، يقوم أساسه علي تمام التثبت والدقة المتناهية في النقل عنهم، مع تمام العدل في الإنصاف في العدل في الحكم عليهم، فهو ليس من الذين تغلب عليهم العاطفة، ويدفعهم الحماس الفارغ، ولا يوجد في اليوم منهج في النقد والحكم علي الآخرين من يملك عشر معشار هذا المنهج الدقيق الواضح الذي قدمه لنا شيخ الإسلام ابن تيميه؛ وذلك من خلال ما قدمناه لك من النصوص التي التقطناها من بعض مصنفاته وكتبه، وهي قليلة جداً نسبة إلي ما كتبه الشيخ من الرسائل العديدة التي تزخر بها المكاتب الإسلامية اليوم.
ومحاور هذا المنهج الدقيق متعددة، وتفاصيلها لها مكان آخر تراجع فيه مما سبق الإشارة إلي بعضها، لكمن سوف أشير إلي المنهج من خلال مسألتين، يظهر لنا جلياً مدي عدالة شيخ الإسلام ابن تيميه وإنصافه حتى مع من يعاونه ويكيدون له، بل حتى مع من حاولوا قتله ورموه بالتكفير والخروج عن الإسلام.
نقد المبتدعة:
أولاً: يعتمد منهجه رحمه الله علي النظر في حالة الإنسان من جهتين:
1- الضبط والإتقان والعلم بالحق، وعلي قدر قرب الإنسان من منهج أهل السنة والجماعة، وحبه للإسلام، بمقدار ما يقدمه للإسلام من خدمة.
2ـ الصدق وطلب الحق النافع وتحري الصواب في مسائل الدين والإيمان.
فإذا توافرت هاتان الصفتان في أي إنسان ولو كان قد عرف أنه تلبس ببدعة تخالف منهج السلف الكرام، فإن ذلك لا يمنعه من إيراد كلامه والاستدلال به في مواطنه، والحكم فيه بالعدل والإنصاف، وبيان ما عنده من فضائل وحسنات وعلي الرغم من شدة تحذيره من البدع وأهلها وبغضه لهم ورده عليهم، فإن ذلك لم يمنع شيخ الإسلام من الكلام فيهم بعدل وإنصاف كما عرف عنه.
يقول رحمه الله: (( والله قد أمرنا ألا نقول إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني ـ فضلاً عن الروافض ـ قولاً فيه حق أن نتركه، بل لا نرد ما فيه من باطل دون ما فيه وهذا يدل علي عظم العدل والإنصاف الذي اتصف به شيخ الإسلام في نقده للناس وجرحهم، ويدل في الوقت نفسه علي أهمية المنهج الفكري والنقدي عنده، والذي كان له الأثر البالغ في تفكيره الذي بني في نفسه هذه الاتجاهات المتزنة، ورأسي فيه الأخلاق السامية.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (( وليس مما أمر الله به رسوله،ولا مما يرتضيه عاقل أن نقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العقل لازم عند جميع العقلاء، وأهل الإسلام أحق بذلك من غيرهم، إذ هم ـ ولله الحمد ـ أكمل الناس عقولاً، وأتممهم إدراكاً، وأصحهم ديناً، وأشرفهم كتاباً، وأفضلهم نبياً، وأحسنهم شريعة )).
قد كان منهجه في الحكم علي المبتدعة باختلاف مللهم ما اقتضته الشريعة، وما يؤيده الواقع الماثل لا الأهواء الشخصية والخلفيات الحزينة الضيقة، بل كان رحمه الله يعطي كل ذي حق حقه .
فالمعتزلة أعقل فهماً وأعلم وأدين والكذب والفجور فيهم أقل منه من الرافضه، والزيدية من الشيعة خير منهم وأقرب إلي الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أدين من الخوارج في هذا، فأهل السنة يسمعون فيهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرم مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم البعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض .
هذا بالنسبة لنقد شيخ الإسلام رحمه الله للمبتدعة من حيث الجملة، ومن حيث نقد الرجال المبتدعين والذي لهم بدعة تخالف منهج السلف، فيكفي أن تأخذ أي كتاب من كتب الشيخ فتقرأه سوف تري الحقيقة ماثلة بين يديك، وستعلم مدي علم وعدل وإنصاف الشيخ حتى مع من يعادونه وينصبون له العداء والمكيدة، وسنورد ـ وأخي القارئ ـ في نهاية البحث أمثلة تطبيقية، تعتبر بمثابة الدليل الساطع والبرهان القاطع علي عدل الشيخ وإنصافه في الحكم علي الآخرين .
ثانياً: الموازنة بين الحسنات والسيئات:
والمسألة الثانية التي يظهر لنا فيه عدل الشيخ وإنصافه في نقد الناس: الموازنة بين السلبيات والإيجابيات، وقد أكد شيخ الإسلام علي أهمية التوازن في نقد الرجال، وضرورة العدل والإنصاف مع كل أحد.
ويقول رحمه الله: (( ويعلمون ـ أي أهل السنة ـ أن جنس المتكلمين أقرب من جنس الفلاسفة، وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناًَ، كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل المكذبين، وإن كان يوجد من أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة، ولا يوجد في كثير من المنتسبين إلي الإسلام، كما قال تعالي: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾(آل عمران: من الآية75).
والإنسان مهما كملت رتبته في الدين ورسخ مقامه في الإسلام معرض للأخطاء،فلا يجوز أبداً أن تطرح جميع سيئاته واجتهاداته وأقواله، بل ننظر إلي كلامه وأقواله الموافقة للحق ونتقبلها،ونعرض عن أخطائه المخالفة للحق، والموازنة بين هذا وهذا عين الإنصاف،وأما مجرد تتبع الأخطاء وتصيد العثرات والغفلة عن حسنات الناس، فهو دليل واضح علي فساد النية وسوء القصد، وهناك أدلة في الكتاب والسنة تدل علي هذا المنهج القويم في نقد الناس وجرحهم ـ أي الموازنة بين الفضائل والسيئات ـ وأذكر لك دليلين فقط:
أولاً: قال تعالي في بيان صدق اليهود،وأنه يوجد فيهم من له صدق ودين: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً﴾ (آل عمران: من الآية75).
فالله يذم اليهود علي صفاتهم الخبيثة، وإن منهم من يحسد المؤمنين ويتمني لهم الضلال، وإن منهم الخونة، وإن منهم من يشتري بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، وإن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد منه، ليوهموا الجهلة أنه من كتاب الله كذلك قال آخر مما ذكره منهم من صفات سيئة، ثم في الوقت نفسه يذكر ويبين أن بعضه له صفات جيدة مثل التزام العهد وأداء الأمانة ، وترك الخيانة وحب الصدق. وأنهم ليسوا كلهم سواء، علي حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال بصدد ذلك: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:113-114).
فبين أن منهم أمة قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، وأنهم يقيمون الليل ويكثرون السجود ويتلون كتاب الله ويتدارسونه، ليتواصلوا إلي معرفة النبي ومتابعته وصدقه والانقياد لأمره. وهؤلاء هم المذكورين في آخر السورة في قوله تعالي: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ آل عمران: من الآية199).
ثانياً: قول النبي لأبي هريرة عن الجني الخبيث الذي جاء إلي مال الصدقة يحثو منه فأمسكه بيده، وقال له: لأدفعنك إلي رسول الله ، فقال: دعني فإن لي عيال أطعمهم، فقال: لأبي هريرة: دعني، وأعلمك آية من كتاب الله إذا قرأتها لا يزال عليك من الله حفيظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فجاء إلي رسول الله ، وأخبره بالقصة كاملة،فقال: ( أما أنه صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان ) ( )
فأثبت للشيطان الخبيث صفة الصدق مع أنه خلقه ودينه الكذب علي عباد الله، والمكر بهم، والتحايل عليهم،ولا يمنع ذلك من تقبل الخبر والكلام الذي نطق به وتفوه به؛ لأن الحكمة قد تصدر من لسان الفاجر، فلا بأس بالانتفاع بها، لأن الكذاب قد يصدق والحكمة ضالة المؤمن.
يقول شيخ الإسلام: (( الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهو قول جميع أصحاب رسول الله، وأئمة الإسلام، وأهل السنة والجماعة الذي يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان )).
ثم قال بعد ذلك: (( وبين علي هذا أموراً كثيرة، ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلا بد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روي البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان يسمي حماراً، وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي ، فأتي به مرة، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتي به إلي رسول الله ، فقال له النبي : (( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)).
فهذا الصحابي الجليل قد تكرر منه ارتكاب هذا المنكر البغيض والكبيرة العظمي،ولكن لا يعني هذا أنه فاسد ليس فيه خير قط، بل أنه فيه من الصفات الطيبة ما يوجب علي بقية الصحابة موالاته ومحبته ونصرته.
فيجب علي الإنسان أن يعرف للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته، ثم يزن بين الأمور بميزان الحق والإنصاف، ولا يجوز أن يغلب جانب النظر إلي السيئات دون النظر إلي المحاسن والحسنات، وهذا هو الفيصل بين أهل السنة والخوارج المبتدعين، فإن الخوارج يقولون إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر لا قبل دخول النار ولا بعده، وعندهم أن الشخص الواحد لا يجتمع فيه الثواب والعقاب والحسنة والسيئة، بل إذ أثيب لا يعاقب ومن عوقب لا يثاب.
يقول ابن تيميه رحمه الله: (( فهذا يبين أن المذنب بالشرب ـ والخمر ـ وغيره قد يكون محباً لله ورسوله، وحب الله ورسوله أوثق عرى الإيمان،كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطاً عليه عند الله ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرهما من حيث أمير