ا
لسؤال الأول : ما معنى ﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ﴾ من قوله تعالى في قصة مريم عليها السلام :﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾(مريم:16- 17) ؟الجواب
قوله تعالى :﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ﴾ معناه : فتصوَّر لها بصورة بشر ، وليس بصورة ملك ، أو جني ، أو أي مخلوق آخر ؛ ولذلك وصفه تعالى بقوله
سَوِيًّا ) . والبشر هم أجمل مخلوقات الله خلْقة ، وهو مشتق من البشر . والبِشْرُ يدل على ظهور الشيء مع حسن وجمال . ومن هنا قيل : سُمِّيَ البشرُ بشرًا لظُهور بشَرَتهم ؛ ومنه قيل لظاهر الجلد : بَشَرَة ، فعُبِّر عنهم بلفظ البَشَر اعْتبارًا بظهور جلدهم من الشعر ، بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف ، أو الوَبر ، أو الشعر . وقيل : سُمُّوا بَشَرًا ؛ لأنهم أحسن الحيوان هيئة وأجملهم خِلْقة . وقيل : سُمُّوا بذلك لظهور شأنهم ؛ من قولهم : أبشرت الأرض . أي : أخرجت نباتها ، فعبِّر عنهم بلفظ البشر اعْتبارًا بخروجهم من الأرض كالنبات ، وظهور شأنهم ، وتباشير كل شيء : أوائله وبداياته .
وتمثله لمريم عليها السلام بصورة بشر سوي يدل على أنه ملك ، وليس بآدمي ، أو جني ، وهذا المدلول صرح به تعالى في قوله :﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾(آل عمران:45) . واختلف في الملائكة : أَهُمْ جمعُ من الملائكة ، أو جبريل وحده .. ويدل على الثاني قول جبريل لها في الآية الأخرى : ﴿ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾(مريم:19) . فالذي تمثَل لمريم – عليها السلام- بشرًا سويَا حاملاً إليها البشرى هو جبريل عليه السلام .. ولا يخفى ما بين لفظ ( البشر ) ، ولفظ ( البشرى ) من توافق وانسجام اقتضاه السياق ، فاختيار لفظ ( بشر ) هنا دون غيره يشكل إعجازًا من إعجاز القرآن .
ومما ينبغي أن يعلم أن الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر لفظ ( البشر ) تعني كلها الوجود الفيزيولوجي المادي للإنسان الناطق العاقل الواعي ؛ وذلك للدلالة على جنسه كبشر ، وليس كجنس آخر من المخلوقات . قال الراغب الأصفهاني :« وخُصَّ في القرآن كل موضع اعتُبِر من الإنسان جُثَّته وظاهرُه بلفظ ( البشر ) ؛ نحو :﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً ﴾(الفرقان:54) ، وقال عز وجل :﴿ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ﴾(ص:71) . ولما أراد الكفار الغض من الأنبياء ، اعتبروا ذلك ، فقالوا :﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾(المدثر:25) .. وعلى هذا قال :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾( لكهف:110 ؛ تنبيها أن الناس يتساوون في البشرية ، وإنما يتفاضلون بما يختصون به من المعارف الجليلة والأعمال الجميلة ؛ ولذلك قال بعده :﴿ يُوحَى إِلَيَّ﴾(لكهف:110) ، تنبيها أني بذلك تميزت عنكم . وقال تعالى :﴿ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾( آل عمران:47) ، فخص لفظ ( البشر ) . وقوله :﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ﴾(مريم:17) ، فعبارة عن الملائكة ، ونبَّه أنه تشبَّح لها وتراءى لها بصورة بشر » .
السؤال الثانى
لماذا وردت كلمة ( الْمَلَؤُاْ ) آية /24 / من سورة ( المؤمنون ):﴿ فَقَالَ الْمَلَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾(المؤمنون:24) ، و( الْمَلأُ ) آية / 27 / من سورة ( هود ) :﴿ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ ﴾(هود: 27) برسمين مختلفين في القرآن ؟الجواب
الملأ – في اللغة - الجماعة من الرجال خاصة . ويطلق ويراد به إمَّا : عامة الرجال . وسمُّوا بالملأ ؛ لأنهم متمالئون . أي : متظاهرون متعاونون . أو يراد به : أشراف القوم ووجوههم . وسمُّوا بذلك ؛ لأنهم يملؤون القلوب جلالاً والعيون جمالاً والأكف نوالاً . أو لأنهم مملوؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة .
فإن كان المراد المعنى الأول ، رسم في المصحف هكذا
الملأ ) ، بألف فوقها همزة ، وهو الأصل ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ﴾(الأعراف: 60)
﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾(الأعراف: 66)
﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾(الأعراف: 75)
﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾(الأعراف: 88)
﴿ وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾(الأعراف: 90)
﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ ﴾(الأعراف: 109)
﴿ وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ ﴾(الأعراف: 127)
﴿ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ ﴾(هود: 27)
﴿ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ ﴾(يسف: 43)
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ ﴾(القصص: 38)
﴿ وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ ﴾(ص: 6)
وإن كان المراد المعنى الثاني ، رسم في المصحف هكذا
الملؤا ) ، بواو فوقها همزة ، تنبيهًا على أنهم من أشرف القوم ، وأرفع الطبقات ، وهم أصحاب الأمر المرجوع إليهم في المشورة والتدبير . ثم زيدت الألف بعد الواو المهموزة ، تنبيهًا على أنهم أحد قسمي الملأ ؛ فظهورهم هو بالنسبة إلى القسم الآخر في الوجود ؛ إذ منهم التابع والمتبوع قد انفصلا في الوجود ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ فَقَالَ الْمَلَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ ﴾(المؤمنون: 24)
﴿ وَقَالَ الْمَلَؤُاْ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾(المؤمنون: 33)
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُاْ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيم ﴾(النمل: 29)
﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُاْ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ﴾(النمل: 32)
﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُاْ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ﴾(النمل :38)
وكذلك قوله تعالى :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ظَلَمُواْ بِهَا ﴾(الأعراف: 103) ، زيدت الألف بين اللام والهمزة المعضودة بالياء ، تنبيهًا على تفصيلٍ في هذا الملإ ظاهر في الوجود . وقد جاء ذكر هامان وقارون منهم . وهذا تقسيم ظاهر في الوجود .. والله تعالى أعلم !
السؤال الثالث
هل هناك فرق في الآيات التي تتكلم عن القتال بلفظ ( الكفار ) . أي : الذين هم يحاربونكم ويعادوكم ، وإذا تكلمت عن الإحسان والعدل إليهم ؛ لكي يعرفوا أخلاق المسلمين تستخدم لفظ ( الكافرون ) ؟ خلاصة السؤال هو : هل في استخدام كلمة ( الكفّار ) تشديد ، و( الكافرون ) ، أو ( الكافرين ) تخفيف ، أم لا فرق بينهما ؟الجواب
لفظ ( الْكَافِرُونَ } جمع
كافر ) ، على وزن ( فاعل ) . ولفظ ( الكُفَّارِ ) جمع
كَفَّار ) بفتح الكاف ، على وزن ( فعَّال ) ، وكلاهما من قولهم : كفر يكفر ، فهو كافر ، وكَفَّار . والكفر في اللغة هو السَّتْرُ والتغطية . ووُصِفَ الليل بالكافر ؛ لأنه يغطي كل شيء . ووُصِفَ الزارع بالكافر ؛ لأنه يغطي البذر في الأرض . وكُفْرُ النعمة وكُفْرانُها : تغطيتها بترك أداء شكرها . قال أحدهم :« لو جاز أن تعبد الشمس في دين الله ، لكنت أعبدها ؛ فإنها شمس ما ألقت يدًا في كافر ، ولا وضعت يدًا إلا في شاكر » . فالكفر يضادُّه الشكر ، وفي اصطلاح الشرع يضادُّه الإيمان ، وهو مصدر سماعي لكَفَر يكفُر . وأصله : جَحْدُ نعمةَ المُنْعِم ، واشتقاقه من مادة الكَفْر ، بفتح الكاف ، وهو السَّتْرُ والتَّغطِيةُ ؛ لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها ؛ كما أن شاكرها أعلنها ؛ ولذلك صيغ له مصدر على وزن الشُّكر ، وقالوا أيضًا : كُفْرانٌ ، على وزن شُكْران . ثم أطلق الكفر في القرآن الكريم على جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة ، بناء على أنه أشد صور كفر النعمة ؛ وذلك أعظم الكفر .
واستعمال الكفران في جحود النعمة أكثر من استعمال الكفر . ومنه قول الله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾(الأنبياء:94) . واستعمال الكفر في الدين أكثر من استعمال الكفران . ومنه قول الله تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾(النساء:136) ، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾(المائدة:44) . وأما الكُفُور فيستعمل فيهما جميعًا ؛ كما في قول الله تعالى :﴿ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً ﴾ (الإسراء: 99) .
2- جاء الأمر في سورة ( الكافرون ) من الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه بندائهم بوصف الكافرين :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ ؛ لأنه لا يوجد لفظ أبشع ولا أشنع من هذا اللفظ ؛ لأنه صفة ذمٍّ عند جميع الخلق ؛ كما لا يوجد لفظ أبلغ في الكشف عن حقيقة هؤلاء ، وأشدُّ وقعًا عليهم ، وإيلامًا لهم من لفظ { الكافرين } ، فهو ثمرة للجهل ، وصفة ذَمٍّ ثابتة ؛ ولكونه كذلك لم يقع الخطاب به في القرآن الكريم في غير موضعين ، هذا أحدهما . والثاني قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ﴾(التحريم:7) . والفرق بينهما : أن ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ يحتمل أن يكونوا قد آمنوا ثم كفروا . وأما ﴿ الْكَافِرُونَ ﴾ فيدل على أن الكفر صفة ملازمة لهم ثابتة فيهم ؛ سواء كانوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق ، أو كانوا من المشركين ، عبدة الأوثان والأصنام .
وأما لفظ { الكُفَّار } فالتشديد فيه للمبالغة في الوصف ، ويطلق في اصطلاح القرآن أكثر ما يطلق على المشركين ، عبدة الأوثان والأصنام ، وقد يطلق ويراد به عموم الكافرين ؛ كما في قوله تعالى:﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ﴾(الفتح:12) ، وقال تعالى :﴿ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾(البقرة:276) ، فأتى بصيغة المبالغة في الكافر والآثم ، وإن كان تعالى لا يحب الكافر ، تنبيهًا على عظم أمر الربا ومخالفة الله عز وجل .
وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾(المائدة: 57 ) ، ففرق بين الكفار ، وأهل الكتاب وهم كفار. وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾(التوبة: 73 ) ، ففرق بين الكفار والمنافقين ، والمنافقون كفار بلا ريب .
وبهذا الذي ذكرناه يظهر الفرق في استعمال القرآن الكريم للفظ { الكافرين } ، ولفظ { الذين كفروا } ، ولفظ { الكفار } ، والله تعالى أعلم ، والحمد لله رب العالمين .