من الشبهاتِ التي طرحها المشككون حولِ قصةِ نبيِّ الله آدمَ أنهم قالوا ما يلي:
1- كيف عرفت الملائكةُ أن بني آدمَ سيسفكون الدماء ؟
2- هل كانت الملائكةُ معترضةٌ على خلقِ الله لآدم؟!
تعلقوا على ذلك بقول اللهِ : وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) (البقرة)
الرد على الشبهة
أولاً:أبدء من حيثُ انتهوا لأرد على سؤالِهم الذي يقول:هل كانت الملائكةُ معترضة على خلقِ الله لآدمَ ؟
الجواب:إن هذا لم يحدث أبدًا فإن اللهَ وصف ملائكته في كتابِه بأنهم لا يعصونه أبدًا ويفعلون ما يؤمرون ..... تدلل على ذلك أدلة منها:
1- قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) (التحريم )،
2- قوله : لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) (الأنبياء)
إذًا يبقى السؤال : ما معنى قولِ الملائكةِ: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) (البقرة)
قلتُ: إن الملائكةَ سألوا اللهَ كي يعلموا الحكمة من خلقِه ، وليس ذلك على سبيلِ الاعتراضِ كما نلمح من سؤالِ المعترضين .... يقوي ذلك ما جاء في الآتي:
1-التفسير الميسر: قالت: يا ربَّنا علِّمْنا وأَرْشِدْنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أنَّ من شأنهم الإفساد في الأرض وإراقة الدماء ظلما وعدوانًا ونحن طوع أمرك، ننزِّهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، ونمجِّدك بكل صفات الكمال والجلال؟ قال الله لهم: إني أعلم ما لا تعلمون من الحكمة البالغة في خلقهم.أهـ
2-تفسير ابن كثير: وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا. . قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا } الآية] وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك كما سيأتي، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }. أهـ
3-تفسير البغوي: واذكر -أيها الرسول- للناس حين قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض قومًا يخلف بعضهم بعضًا لعمارتها. قالت: يا ربَّنا علِّمْنا وأَرْشِدْنا ما الحكمة في خلق هؤلاء......أهـ
4-تفسير الشيخ ابن عثيمين: واستفهام الملائكة للاستطلاع، والاستعلام، وليس للاعتراض؛ قال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني: وستتغير الحال؛ ولا تكون كالتي سبقت. أهـ
ثانيًا :إن الإجابة على السؤال الذي يقول: كيف عرفت الملائكةُ أن بني آدمَ سيسفكون الدماء… يحتاج إلى بحثٍ ملخصة ما يلي :
أولاً:إن القرآنَ الكريم لم يذكر صراحةً كيف عرفت الملائكةُ أن بني آدم سيسفكون الدماء....
ثانيا: إن السنةَ المطهرة لم يرد بها حديث صحيح بهذا الشأن.
ثالثا: إن المفسرين ذكروا أقولاً تحت قولِ اللهِ : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ،
منها: أن الجنَ كانوا يعيشون قبل خلقِ آدم فسفكوا الدماء ،وهذا قد يقبل إذ أن دماءَ الجن ليست كدماءِ البشر، وقد ثبت في الأحاديثِ أن الجنَ يأكلون ويشربون.......
والذي تميل إليه نفسي هوالظاهرُ من الآيةِ الكريمةِ نفسها أن اللهَ قد أطلع الملائكةَ على حالِ بني آدم وعن طبيعتهم، كيف سيفسدون في الأرضِ، ويسفكون الدماء........... فقالت الملائكة : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ فكان الجوابُ من الربِّ : إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
يدعم ما سبق ما جاء في الآتي:
1- تفسير ابن كثير:قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا الحسن، قال: قال الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم: إني فاعل. فآمنوا بربهم ، فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه، فقالوا بالعلم الذي علمهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؟ { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }.......... قال ابن جريج: إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم، فقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }............. وقال ابنُ جرير: وقال بعضهم: إنما قالت الملائكةُ ما قالت: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة، فقالت على التعجب منها: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم!؟ فأجابهم ربهم: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } يعني: أن ذلك كائن منهم، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعا. قال: وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا: يا رب خبرنا، مسألة [الملائكة] استخبار منهم، لا على وجه الإنكار، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد عن قتادة قوله: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } فاستشار الملائكة في خلق آدم، فقالوا: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة..... أهـ بتصرف.
2- تفسير المنتخب: واذكر قولَ الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها بالمعاصي ، ومن يسفك الدماء بالعدوان والقتل لما في طبيعته من شهوات ، بينما نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، ونظهر ذكرك ونمجِّدك؟ فأجابهم ربهم : إني أعلم ما لم تعلموا من المصلحة في ذلك . أهـ
ثالثًا: قد يقال ممن لا عقول لهم :إن الآية تتحدث عن آدمَ بأنه سيسفك الدماءَ لا تتحدث عن ذريتِه ؛الآية تتحدث عن آدم فقط : وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) (البقرة)،
والمعلوم لدى الجميع أن آدم لم يسفك الدماء ويفسد في الأرض....؟!
قلتُ: قد يقال ذلك ممن لا عقول عندهم هذا ؛ لأن الآية لا تتحدث عن آدمَ بعينه ،إنما تحدثت عن الجنس البشري، وبالمثال يتضح المقال :يقول : وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) (آل عمران)، من المعلوم إن الذي خاطب مريمَ هو ملاكٌ واحدٌ هو جبريل ،لكنّ اللهَ قال: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إشارة إلى جبريل بأنه من جنسِ الملائكة....
يدعم ما سبق ما جاء في تفسيرِ ابنِ كثيرِ: الظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون [أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم، قاله القرطبي] أو أنهم قاسوهم على من سبق.أهـ